سبب عدم زيارة البابا فرنسيس الأرجنتين منذ توليه المنصب: الغياب المؤلم عن الوطن الأم
في زمنٍ اعتاد فيه الباباوات أن يعودوا إلى أوطانهم حاملين بشارة الوحدة والرحمة، ظل بابا الأرجنتين، فرنسيس الأول، غائبًا عن أرض نشأته منذ لحظة توليه منصب الحبر الأعظم عام 2013، وحتى وفاته عام 2025.
إنه الغياب الذي لم يُفَسَّر رسميًا، لكنه أثار مزيجًا من الحزن والتساؤلات والإحباط لدى ملايين الكاثوليك في الأرجنتين، الذين كانوا يترقبون اليوم الذي يعود فيه ابنهم ليبارك أرضه الأولى.
- فلماذا لم يزر البابا فرنسيس بلاده الأرجنتين طوال 12 عامًا؟
- هل كان السبب سياسيًا؟ أم شخصيًا؟ أم أن الرسائل التي أراد إيصالها كانت تتجاوز حدود الجغرافيا؟
في هذا المقال نكشف لك القصة الكاملة خلف هذا الغياب الاستثنائي.
البابا القادم من أميركا اللاتينية… ولم يعد
في مارس 2013، احتفلت بوينس آيرس كأنها تحتفل بكأس عالم استثنائي: أحد أبنائها، الكاردينال خورخي ماريو بيرغوليو، أصبح أول بابا من أميركا اللاتينية، وأول بابا غير أوروبي منذ ألف عام.
الشوارع امتلأت، الكنائس ازدحمت، والأمل كان عارمًا.
لكن سرعان ما تحول هذا الفرح إلى حيرة، ثم إلى استياء صامت، بعد أن مرت السنوات تلو الأخرى دون أن يضع البابا قدمه في الأرجنتين، بينما زار ما يزيد عن 68 دولة حول العالم، بما فيها جيرانه: البرازيل، تشيلي، باراغواي، بوليفيا، وحتى دول أفريقية وآسيوية لم تطأها أقدام باباوات سابقين.
شهادة الأرجنتينيين: مشاعر مختلطة بين الفخر والخذلان
في قداس جنائزي أقيم خارج كنيسة سان خوسيه دي فلوريس، حيث نشأ بيرغوليو وشعر لأول مرة برغبته في الكهنوت، قالت لورا أغيري (50 عامًا):
“بصراحة، لم يعجبني أنه لم يأتِ إلى الأرجنتين.”
أما سيباستيان موراليس، وهو أحد من ساعدهم البابا شخصيًا قبل سنوات عندما كان بلا مأوى، فقال:
“كان لا يريد أن يظهر وكأنه أداة لأي رئيس سياسي. لم يرغب أن يقول أحد: أنا من جلب البابا.”
هذه المشاعر تعكس حالة من التقدير العميق الممزوج بخيبة أمل إنسانية.
العلاقة المتوترة مع السياسة الأرجنتينية: القصة من الداخل
لطالما عُرِف البابا فرنسيس بموقفه الحاسم تجاه الفساد، الرأسمالية المتوحشة، والانقسامات السياسية.
لكن، هل كانت السياسة الأرجنتينية السبب المباشر في إبعاده عن الوطن؟
كريستينا فرنانديز دي كيرشنر:
البابا (حينها كاردينال) كان معارضًا شرسًا لسياسات كيرشنر، خصوصًا تقنين زواج المثليين
العلاقة كانت متوترة إلى حد القطيعة
تحسنت تدريجيًا بعد وصوله إلى الفاتيكان، لكن دون أن تتطور إلى زيارة رسمية
ماوريسيو ماكري:
- وجه اقتصادي يميني، رفض البابا سياساته الاقتصادية “غير العادلة”
- العلاقة بقيت باردة، رغم دعوات متعددة لزيارته
ألبرتو فرنانديز:
- صراع مفتوح بسبب تقنين الإجهاض في الأرجنتين عام 2020
- البابا أبدى معارضة شديدة لهذا القانون
- تجنب اللقاء بالرئيس لفترة طويلة
خافيير ميلي:
- انتقد البابا بشدة قبل توليه الرئاسة، واصفًا إياه بـ”اليساري الذي يُضلل الناس”
- تراجع لاحقًا واعتذر، والتقيا في الفاتيكان عام 2024
- لكنها كانت علاقة مضطربة حتى النهاية
- السياسة ليست السبب الوحيد… ماذا عن الرسائل الرمزية؟
- أوضح فرنسيس في إحدى المقابلات:
“لقد قضيت 76 عامًا في الأرجنتين، هذا يكفي، أليس كذلك؟”
تصريحه بدا مازحًا، لكنه يعكس فلسفة أعمق: البابا أراد أن يكون عالميًا، لا أرجنتينيًا فقط.
ربما أراد أن يفصل بين الجغرافيا والرسالة البابوية. أراد أن يُظهر للعالم أن الكنيسة الكاثوليكية لا تُدار بالمشاعر القومية، بل بالعالمية الروحية.
الفاتيكان يوضح: “كان يتابع الوطن عن كثب”
رغم الغياب الجسدي، أكدت مصادر كنسية أن البابا لم يغب عن الوطن روحيًا.
قال القس باتريسيو أوسويناك:
“كان دائمًا على صلة بالأرجنتين. لم يتمكن من الحضور شخصيًا، لكنه كان دائمًا معنا – ونعلم أننا كنا دائمًا في قلبه.”
كما كان يُقال إنه يتابع أخبار الأرجنتين يوميًا، ويطلب تقارير خاصة عن الوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، ويُرسل مساعدات روحية وإنسانية عبر الكنيسة.
مقارنة مع الباباوات السابقين: هل يُعد هذا الغياب سابقة؟
- البابا يوحنا بولس الثاني: زار بولندا بعد أقل من عام من انتخابه
- البابا بنديكتوس السادس عشر: عاد إلى ألمانيا في أول رحلة دولية له
- البابا فرنسيس: لم يعد إلى الأرجنتين طوال 12 عامًا
- إنها سابقة بالفعل، ويبدو أنها ستُدرَس في كتب التاريخ الكنسي، تحت عنوان “غياب بابا عن وطنه الأول”.
كيف أثّر الغياب على شعبيته داخل بلاده؟
بحسب مركز بيو للأبحاث:
- 2013: 98% من الكاثوليك الأرجنتينيين كانوا يملكون رأيًا إيجابيًا عن البابا
- 2024: النسبة انخفضت إلى 74%
أسباب الانخفاض:
- الغياب الطويل
- المواقف السياسية للبابا
- عدم دعمه لقضايا محلية حساسة بشكل مباشر
- زار الجوار ولم يزر الأهل: علامات استفهام إضافية
زار البابا خلال سنواته الـ12:
- البرازيل، تشيلي، باراغواي، بوليفيا، كولومبيا، بيرو، الإكوادور
- ولم يزر الأرجنتين
هذا التناقض فجّر موجة من الاستياء الشعبي والإعلامي، إذ رأى كثيرون أن الزيارات كانت رسالة رمزية: “سأخدم الجميع، لكن دون محاباة الوطن”.
إرث البابا فرنسيس في الأرجنتين: هل يُنسى؟
رغم الغياب، لن يُنسى فرنسيس بسهولة، فقد:
- دعم مشاريع إنقاذ الشباب من المخدرات
- أطلق مبادرات تعليمية داخل الكنيسة
- رعى مؤتمرات للسلام في بوينس آيرس قبل توليه الحبرية
- ساند مؤسسات محلية من الفاتيكان
الخاتمة: غياب الجسد لا يعني غياب القلب
غياب البابا فرنسيس عن بلاده لم يكن ناتجًا عن نكران، بل عن فلسفة بابوية عالمية، أراد بها أن يُنأى برسالته عن التجاذبات السياسية.
ربما أحبط البعض، لكنه حمل همّ الوطن في صمته وقراراته، وفي كلماته التي ظل يرددها حتى الرمق الأخير: “السلام، العدل، والرحمة”.