سبب وفاة فريدريك فورسايث.. من الطيران إلى كتابة التاريخ عبر الرواية
في صباح يوم أمس الاثنين الموافق 9 حزيران/ يونيو 2025، فقد العالم الأدبي أحد أهم أعمدته وأكثرهم تأثيرًا، برحيل الروائي البريطاني الشهير فريدريك فورسايث عن عمر ناهز 86 عامًا. وقد فارق الحياة بهدوء في منزله، محاطًا بعائلته، بعد معاناة قصيرة مع المرض، وفقًا لما أعلنت وكالة “كورتيس براون” الأدبية التي كانت تدير أعماله منذ سنوات.
رحيل فورسايث لم يكن مجرد خبر وفاة، بل مناسبة أدبية ثقيلة، فتاريخه الإبداعي وحضوره الأدبي جعلا منه أيقونة في عالم روايات الجاسوسية والتشويق السياسي، وهو الذي أعاد صياغة هذا النوع من الأدب ليمنحه بعدًا تقنيًا وصحفيًا غير مسبوق.
نبذة عن فريدريك فورسايث ويكيبيديا السيرة الذاتية: البدايات والتكوين
وُلد فريدريك فورسايث في 25 أغسطس/ آب 1938 في كينت، إنجلترا. نشأ في أسرة بسيطة؛ والده كان يعمل في صناعة الفراء، بينما كانت والدته خياطة. ومنذ سنواته المبكرة، أبدى شغفًا بالطيران والسياسة والكتابة.
انضم فورسايث إلى سلاح الجو الملكي البريطاني (RAF) حيث تدرب كطيار، مما منحه خلفية دقيقة عن الطائرات والمعدات العسكرية التي ستحضر لاحقًا في كتاباته. بعد فترة الخدمة، التحق بالعمل الصحفي كمراسل حربي، وهي التجربة التي شكلت الجانب الأخطر والأكثر واقعية في مسيرته الأدبية.
بيافرا.. التحول من المراسل إلى الروائي
في أواخر الستينيات، أوفد فورسايث لتغطية الحرب الأهلية في بيافرا جنوب شرق نيجيريا لصالح هيئة الإذاعة البريطانية (BBC). خلال تغطيته، أبدى تعاطفًا واضحًا مع شعب بيافرا، وهو ما اعتبرته وزارة الخارجية البريطانية انحرافًا عن التوجه الإعلامي الرسمي، فتمت محاصرته مهنيًا، ما دفعه إلى الاستقالة.
عاد من أفريقيا مفلسًا، لكنه محمّل بخبرة غنية جعلته يقرر خوض تجربة الكتابة. في عام 1969، وهو في الثلاثين من عمره، جلس ليكتب روايته الأولى. لم يكن يدري حينها أنه بصدد كتابة واحدة من أهم روايات الجريمة السياسية في القرن العشرين.
رواية The Day of the Jackal.. بداية الأسطورة
في عام 1971، أصدر فورسايث رواية The Day of the Jackal، والتي سرعان ما تحولت إلى ظاهرة عالمية. تدور الرواية حول محاولة اغتيال الجنرال الفرنسي شارل ديغول، وتميزت بأسلوبها الدقيق، وإيقاعها المتصاعد، واستخدامها لتقنيات التحقيق الصحفي في حبكة أدبية مشوّقة.
الرواية حققت نجاحًا ساحقًا، تُرجمت إلى عشرات اللغات، وبيع منها ملايين النسخ، بل تحولت لاحقًا إلى فيلم سينمائي ناجح، ساعد في ترسيخ اسم فورسايث كأحد رواد أدب الجاسوسية.
الأسلوب الفريد: الصحافة تكتب الرواية
ما يميز أعمال فورسايث هو المزج البارع بين أسلوب المراسل الحربي وتقنيات الكاتب الروائي. التزم فورسايث بقاعدتين أساسيتين في أعماله: الأولى إبقاء أسماء الشخصيات الحقيقية كلما أمكن، والثانية تقديم الأحداث بأقصى قدر من الدقة التقنية.
هذا الأسلوب شكّل ما يمكن تسميته بـ”أدب التشويق التقني”، وهو النمط الذي ألهم لاحقًا كتابًا عالميين مثل توم كلانسي وروبرت لودلوم وروبرت ليتيل. فأصبحت روايات الجاسوسية أكثر ارتباطًا بالواقع، وأقل ميلًا إلى الخيال المفرط.
روايات بارزة وأرقام مبهرة
خلال مسيرته، كتب فورسايث أكثر من 20 رواية، من بينها:
- The Odessa File (1972)
- The Dogs of War (1974)
- The Fourth Protocol (1984)
- Avenger (2003)
- Kill List (2013)
وقد بلغت مبيعات كتبه أكثر من 70 مليون نسخة حول العالم، وهو رقم يضعه في مصاف كبار الأدباء عالميًا. كما تُرجمت أعماله إلى أكثر من 30 لغة، وتحولت بعضها إلى أعمال سينمائية وتلفزيونية.
فورسايث والوكالة السرية.. حقيقة أم تكهنات؟
أثار فورسايث الكثير من الجدل عندما كشف في مقابلة عام 2015 أنه عمل في وقت سابق كعميل لجهاز الاستخبارات البريطانية MI6. هذا الكشف أضفى بُعدًا آخر على كتبه، التي بدا أن بعض أحداثها مستوحاة من عمليات واقعية.
وقد كتب فورسايث في سيرته الذاتية The Outsider أنه كان يؤدي مهامًا استخباراتية أثناء تغطيته للعديد من النزاعات حول العالم، مما يجعل تجربته فريدة ومفعمة بالواقعية.
حياته الشخصية وبساطة العيش
رغم شهرته العالمية، كان فورسايث يعيش حياة بسيطة، ويبتعد عن الأضواء قدر الإمكان. لم يكن من عشاق المقابلات التلفزيونية، وفضّل دومًا أن يتحدث من خلال كتبه. وقد تزوج مرة واحدة وله أبناء، وكان مولعًا بالصيد والطيران حتى أواخر سنواته.
سبب وفاة فريدريك فورسايث
في صباح التاسع من حزيران 2025، رحل فريدريك فورسايث بهدوء، بعد صراع قصير مع المرض. وكالة “كورتيس براون” التي تولت أعماله أعلنت الخبر، ونعاه مدير أعماله جوناثان لويد واصفًا إياه بـ”أحد أعظم كتاب روايات التشويق في العالم”.
وسرعان ما امتلأت صفحات الصحف العالمية بالإشادة بإرثه، وتحدث كُتّاب ونقاد عن تأثيره العميق على أدب الجريمة السياسية. بينما كتب بعض معجبيه عبارات وداعية مؤثرة: “لقد علّمنا كيف نقرأ السياسة من بين سطور الرواية.”
إرث أدبي خالد
إرث فورسايث لا يكمن فقط في عدد النسخ المباعة، بل في تحوّله إلى مدرسة قائمة بذاتها في كتابة الرواية. أسلوبه أثرى الأدب السياسي والأمني، وجعل من الأدب أداة لفهم عالم الاستخبارات، وغرف الحرب، وخلفيات القرارات السياسية.
إنه الرجل الذي نقل معارفه الصحفية إلى الورق، وجعل منها أدبًا يُدرس، ويُستلهم، ويُقتدى به. لقد كتب رواياته كما تُكتب التحقيقات، وربما هذا ما جعلها خالدة وعابرة للأجيال.
كلمة وداع
فريدريك فورسايث لم يكن مجرد كاتب، بل كان جهاز استخبارات أدبي، محللًا بارعًا، ومراسلًا مقاتلًا، وأديبًا صلبًا. برحيله، فقد العالم أحد آخر فرسان الرواية الصلبة، لكن أعماله ستظل تسافر من قارة إلى أخرى، لتروي الحكايات كما يجب أن تُروى.